جنوب أفريقيا والولايات المتحدة- مصالح متضاربة أم فرص استثمارية؟

المؤلف: د. خالد عزب09.01.2025
جنوب أفريقيا والولايات المتحدة- مصالح متضاربة أم فرص استثمارية؟

عندما تسلّم دونالد ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، أطلق برنامجًا يهدف إلى مساعدة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا على الهجرة إلى الولايات المتحدة. قامت طائرات مستأجرة من قِبل الولايات المتحدة بنقل مواطنين بيض (الأفريكانيين) من جنوب أفريقيا إلى الأراضي الأميركية، مما أثار تساؤلات جمة حول دوافع هذا البرنامج وأهدافه الخفية.

يكمن السبب الأساسي في ما يُروج له إيلون ماسك بشأن ما يصفه بـ"اضطهاد السود للأقلية البيضاء" في جنوب أفريقيا، وهي فئة لا تتجاوز نسبتها 7% من إجمالي السكان، إلا أنها تمتلك ما يقارب 70% من الأراضي الزراعية الخصبة. يُفهم ضمنيًا من هذا الطرح أن ماسك يُحمّل السود مسؤولية الإخفاق في تحقيق أهداف سياسات التمكين الاقتصادي، التي تم إقرارها بعد مرور ثلاثة عقود على انتهاء نظام الفصل العنصري وسلطة الأقلية البيضاء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا يتصدر إيلون ماسك هذه الحملة بالذات؟ فالرجل وُلد في جنوب أفريقيا عام 1971، ثم انتقل لاحقًا إلى كندا، وهي مسقط رأس والدته، ومنها إلى الولايات المتحدة، دون أن يُسجّل له أي تجربة شخصية تُثبت تعرضه لأي نوع من المضايقات من السود في وطنه الأم.

الوجه الآخر لهذه الحملة يكشف عن إدراك متزايد لدى الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا بأن جهود الحكومات ذات الأغلبية السوداء لتمكين المواطنين اقتصاديًا قد تهدد بسحب الثروة من تحت أيديهم. ويتعمق هذا القلق في ظل وجود قانون يسمح – في ظروف معينة – بمصادرة الأراضي الزراعية لأهداف اقتصادية. في المقابل، تُظهر المواقف السياسية المتتالية منذ عهد نيلسون مانديلا أن جنوب أفريقيا تتجه تدريجيًا نحو تبني سياسات أكثر استقلالية عن الغرب، وتعزيز مكانتها في مواجهة النفوذ الغربي.

لم يترك الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا أي فرصة لتفنيد الادعاءات التي يروج لها إيلون ماسك، والتي رددها فيما بعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حتى خلال لقائهما الأخير في البيت الأبيض، حيث أصر ترامب على عرض مقطع فيديو يزعم دعم الرواية الأميركية بشأن "اضطهاد البيض" في جنوب أفريقيا. تضمن الفيديو لقطات لجوليوس ماليما، السياسي اليساري الجنوب أفريقي، وهو يهتف بشعارات تعود إلى حقبة الفصل العنصري ضد البيض.

وفي منتدى عُقد في أبيدجان بساحل العاج، علّق رامافوزا على إعلان الولايات المتحدة فتح أبواب الهجرة للأفارقة البيض بدعوى تعرضهم للاضطهاد، وتعهدها بإنجاز إجراءات لجوئهم في غضون ثلاثة أشهر فقط – وهي إجراءات تستغرق عادة ما يصل إلى ثلاث سنوات – قائلاً: "هذا لا ينطبق عليهم، فهم لا يستوفون تعريف اللاجئ"، وأضاف: "اللاجئ هو الشخص الذي يهرب من بلاده خوفًا من الاضطهاد السياسي أو الديني".

تشير الأحداث المتلاحقة في جنوب أفريقيا إلى أن الفترة بين أبريل/ نيسان 2020 و2024 شهدت مقتل 225 شخصًا في المزارع، وفقًا لإحصائيات الشرطة الجنوب أفريقية، من بينهم 53 مزارعًا أبيض فقط. على الرغم من ذلك، تصر الولايات المتحدة على تضخيم الحوادث التي تستهدف البيض على وجه الخصوص، مما يثير تساؤلات حول دوافع هذا التركيز الأميركي على هذا الملف بالتحديد.

هناك جانب آخر يتعلق بصعود جنوب أفريقيا على الساحة الدولية؛ حيث أصبحت تُصنف ضمن الاقتصادات الصاعدة، وانضمت إلى مجموعة العشرين التي تمثل نحو 85% من الاقتصاد العالمي، على الرغم من أن مساهمتها لا تتجاوز 0.6% من إجمالي الناتج المحلي للمجموعة. والأكثر أهمية، أن جنوب أفريقيا تستعد هذا العام لاستضافة قمة مجموعة العشرين، مما يعزز مكانتها الدولية المرموقة.

لكن الأهمية الحقيقية لا تكمن فقط في هذا الحضور الدولي، بل في أن هذه القمم تساهم في إيقاظ الوعي الأفريقي الجماعي بأهمية الثروات والموقع الجيوسياسي للقارة، وهو ما يثير قلق أمريكا وشركاتها التي تسعى إلى إحكام قبضتها على مفاصل الاقتصاد العالمي.

جنوب أفريقيا وروسيا

أعربت جنوب أفريقيا مرارًا عن تضامنها مع روسيا منذ بداية غزوها لأوكرانيا، ومع ذلك، لم يحضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قمة مجموعة "البريكس" التي استضافتها جنوب أفريقيا في عام 2023، مبررًا غيابه بأن مشاركته قد تعيق نجاح القمة. وبناءً على ذلك، يُستبعد حضوره المتوقع لقمة مجموعة العشرين المقبلة في جنوب أفريقيا.

لكن التحدي الأكبر الذي تواجهه الدولة المضيفة لا يتعلق بروسيا، بل يكمن في ضمان حضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ إن مشاركته ستُعتبر مكسبًا سياسيًا كبيرًا، وتعزز فرص نجاح القمة، وتوطد العلاقات بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة.

الاقتصاد يتحدث

هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية باهظة تصل إلى 100% على دول مجموعة "البريكس"، ردًا على دعوات بعض أعضائها إلى إنشاء عملة احتياطية بديلة للدولار الأميركي. تأتي هذه التهديدات في سياق مواقف جنوب أفريقيا نفسها، التي تدعو إلى إلغاء "الدولرة"، وتعزيز التبادل التجاري بالعملات المحلية. يتفاقم القلق الأميركي بسبب تنامي العلاقات الوثيقة بين جنوب أفريقيا وشركاء "البريكس"، وخاصة الصين وروسيا وإيران، وهي علاقات تضمنت في بعض المراحل تدريبات عسكرية مشتركة.

وبإضافة موقف جنوب أفريقيا من الحرب على غزة، والمتمثل في رفعها دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية، تتضح أوجه الخلاف المتعددة بين بريتوريا وواشنطن. يفسر هذا التوتر سبب ضعف شعبية جنوب أفريقيا داخل الأوساط الجمهورية في الكونغرس الأميركي، حيث تم اقتراح – منذ فبراير/ شباط 2024 – إعادة تقييم العلاقات الثنائية مع جنوب أفريقيا.

قوة جنوب أفريقيا

تمتلك جنوب أفريقيا قوة استراتيجية تتمثل في معادنها النادرة، مثل المنغنيز والبلاتين والإيريديوم، والتي شكلت حوالي 6.4 مليارات دولار من إجمالي صادراتها السلعية إلى الولايات المتحدة، وهو ما يمثل 7.4% من واردات واشنطن من السلع الأولية في عام 2022. من هذا المنطلق، يدرك الطرفان أهمية هذه الصادرات ودورها الحيوي في تعزيز العلاقة الثنائية بين البلدين.

وفي هذا السياق، سعى الرئيس سيريل رامافوزا خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة – التي تُعد ثاني أكبر شريك تجاري لبلاده – إلى الحصول على تطمينات بشأن مستقبل العلاقات الاقتصادية، خاصة في ظل التهديدات بفرض تعريفات جمركية مرتفعة، وهو ما قد يزيد من الأعباء على اقتصاد جنوب أفريقيا الذي يعاني بالفعل من ارتفاع معدلات البطالة وتباطؤ النمو.

إيلون ماسك

في ظل هذه التطورات، ظهر إيلون ماسك كـ"صائد فرص"، حيث سارع إلى الدفع بشركته "ستارلينك" المتخصصة في توفير خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية نحو التفاوض مع حكومة جنوب أفريقيا لتقديم خدماتها في البلاد. ومع ذلك، اصطدم هذا التوجه بقانون محلي يشترط طرح نسبة من أسهم الشركة المحلية التابعة لـ"ستارلينك" للمواطنين السود، وذلك ضمن سياسة تمكين اقتصادي تهدف إلى تصحيح التفاوتات التاريخية. قوبل هذا الشرط بالرفض من قِبل ماسك وعدد من المستثمرين الأميركيين.

لكن حكومة جنوب أفريقيا قدمت بديلاً عمليًا من خلال ما يُعرف بـ"مكافئ الأسهم" (Equity Equivalent Investment Programme)، والذي يسمح للشركات الأجنبية بالمساهمة باستثمارات تنموية في المناطق المحرومة بدلاً من التنازل عن حصصها في الأسهم. وقد تم تطبيق هذا النموذج بنجاح في قطاع صناعة السيارات داخل البلاد، مما يشير إلى أن الطريق أصبح مُعبدًا أمام ماسك للاستثمار في السوق الجنوب أفريقية الواعدة.

ويبقى السؤال المطروح: هل تمثل هذه الخطوة بداية تحول إيجابي في العلاقات بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة قبيل انعقاد قمة العشرين المرتقبة في نهاية العام الجاري؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة